الرئيسية / مقالات / “أنا أب عصبي”.. “أنا أم عصبية”

“أنا أب عصبي”.. “أنا أم عصبية”

أنا أب عصبي”.. “أنا أم عصبية

د.فيروز عمر

“أنا أب عصبي”.. “أنا أم عصبية”هذه الكلمات تكاد تكون هي الشكوى الأكثر شيوعا في غرف الاستشارات التربوية والأسرية، فمعظم الآباء والأمهات يشكون من أنهم سريعو الانفعال والغضب أو عصبيون، ومعظمهم يدّعي أن هذا “طبع” من طباعهم غير القابلة للتغيير، لأن الطبع – كما يقولون – “يغلب التطبع”، وبالتالي فهم يرون أن على الآخرين التأقلم على هذا الطبع بمن فيهم أبناؤهم وبناتهم.

والسؤال هنا: إذا كانت هذه النسبة الهائلة من الآباء والأمهات تعاني من هذه المشكلة، فهذا معناه أن معظم البشر عصبيون، وأنهم بالتأكيد سينجبون أبناء عصبيين، فنعيش في حياة مشتعلة بالصراخ بين أفراد هذا الجنس البشري العصبي “بطبعه”!

ولكي نصل لإجابات حقيقية نحتاج أن نسأل ثلاثة أسئلة: هل العصبية فعلا طبع لا يمكن تغييره؟ ما أسبابها؟ وما هو الحل؟

وهنا أقول أن التحكم في الغضب والانفعال هو “سلوك” و”خلق” يمكن للإنسان السيطرة عليه، وبالتالي فإن أي شخص يستطيع السيطرة على انفعالاته بدرجة معقولة، ربما لا تصل لنسبة مائة بالمائة لأننا بشر، ولكن يمكن أن تصل لدرجة جيدة جدا تجعل علاقته بأبنائه وبمن حوله ناجحة ومنتجة.

وبالتالي لا داعي لاستخدام “شماعة” الطبع، وينبغي على كل شخص عصبي أن يعترف، ببساطة، أنه في حاجة إلى أن يبذل جهدا أكبر في تربية نفسه حتى يستطيع تربية أبنائه. ومرة أخرى أكرر: أنا لا أتحدث هنا عن الغضب العابر الذي يحدث لنا جميعا كبشر، بين الحين والآخر، ولكني أتحدث عن إنسان أصبحت العصبية سمة في سلوكه.


بعضهم يتصور أن سرعة الانفعال سببها “الضغوط”، وبالتالي فإن الحل هو التخفيف من هذه الضغوط أو تعلم مهارات الاسترخاء، وهذا ربما يكون صحيحا بشكل جزئي، ولكنه ليس هو السبب الأهم، بدليل أن هناك أناس يحملون من الضغوط ما تنوء به الجبال ومع ذلك يسيطرون على انفعالاتهم.

وهناك آخرون يقضون يومهم على المقاهي أو الإنترنت ومع ذلك تجدهم عصبيين مع أبنائهم! بل إن الضغوط التي تستخدم أيضا “كشماعة”، هي جزء طبيعي لا يتجزأ من الحياة ومن نمو الشخصية ونضجها، فمن لا يتعرض للضغوط هو بالتأكيد لا ينمو ولا يتطور.

وثمرة الضغوط هي مهارات جديدة نكتسبها، أعمال إضافية نتقنها، عيوب نصارح أنفسنا بها ونحاول علاجها، مشكلات تمر بنا فنواجهها. وهذه هي الحياة، فلا نستطيع أن نحلم بحياة بلا ضغوط، حتى نتخلص من العصبية والانفعال، وليس من المقبول أن نستخدم – كما ذكرت – شماعة “الضغوط” لنبرر لأنفسنا العصبية والانفعال.

السبب الأول ـ كما ذكرت ـ هو “الشمّاعات”، وأن يستبيح الإنسان لنفسه الانفعال، ويرى أنه “طبع”، وأنه ضحية “للضغوط” فلا يضع خطة لتربية نفسه أو تهذيبها بل يتركها كالحيوان الهائج الذي يفرغ غضبه فيمن حوله، وعندما يمارس الأب أو الأم هذه العصبية مع أبنائه بالتحديد، فإن هذا يسمى في علم النفس “إزاحة”، وهي من أشهر آليات الدفاع النفسي وأشدها دناءة.

ومعنى “الإزاحة” هو أن يفرغ الإنسان ضغوطه على الطرف الأضعف، فهو لا يستطيع أن يفعل ذلك مع المدير أو مع الأشخاص ذوي السلطة عليه، فيفعل ذلك مع ابنه!

والحل هنا هو أن “يدرك” دناءة ما يفعل، وُيذكر نفسه كلما وقف أمام ابنه أن هذا الابن “إنسان” متساوٍ في الكرامة الإنسانية مع “المدير”، بل هو أحق بالرحمة والاحترام من المدير، لأنه في رقبتك ومسؤوليتك، وأي انحراف يصيبه بسبب عصبيتك ستكون أنت المسؤول عنه أمام الله.

وهنا يأتي سؤال آخر إذا كان انفعالنا مع أبنائنا هو “إزاحة” دنيئة فهل من غير المسموح لنا الحزم معهم أبدا؟ والإجابة: بل مسموح لنا الحزم ورفع الصوت أحيانا، ولكن بشرط أن يكون هذا “باختيارنا وتحت سيطرتنا” وليس اندفاعا وراء شحنة غضب بداخلنا أو تنفيسًا عن ضغوطنا في وجوههم.

كلمة السر هنا هي : السيطرة، أنت قررت وأنت في كامل إرادتك أن ترفع صوتك هنا، أو قررت وأنت في كامل إرادتك أن تتغافل هذا المرة، أو قررت وأنت في كامل وعيك أن تكتفي بنظرة حازمة، أنت هنا المسيطر وليس غضبك، والعبرة أيضا بأن يكون الانفعال متناسباً مع الخطأ وليس مع حالتك النفسية.

هناك بعض الأفكار والمشاريع التي تجعلنا في ضغوط دائمة لا داعي لها، منها بعض “أفكارنا” و”مشاعرنا”. من أمثلة ذلك: الرغبة الدائمة في الوصول “للمثالية والكمال”.

هؤلاء الذين يبالغون في البحث عن المثالية والكمال في كل شيء هم دائما متذمرون وساخطون وغاضبون مع أبنائهم. المثالية والكمال في التحصيل الدراسي للأبناء، والأخلاق، وفي المظهر… إلخ. والحقيقة أننا بشر وأن أبناءنا بشر وأن الكمال لله وحده، وأننا في حاجة للكثير من التغافل والرحمة والشفقة والرضا.

ومن الأمثلة أيضا: القلق الدائم، هناك قلق من حوادث الطرق، وقلق من صحبة السوء، وقلق من الأمراض والابتلاءات والمصائب، وهذا القلق يدعو للانفعال والغضب والتوتر. وهؤلاء الآباء يحتاجون إلى التخفف من القلق، وإلى أن يتحلوا بالكثير من التوكل على الله والسكينة، لأن هذا القلق -ببساطة- لن يغير من القدر شيئا! سيجعلنا فقط مصدر نكد لأبنائنا من دون فائدة، فلنأخذ بالأسباب ما استطعنا، ولنهدأ ونتوكل على الله.

ومن الأمثلة أيضا: الغيرة والتفاخر، أحيانا يكون أبناؤنا مادة للتفاخر بين أصدقائنا وأقاربنا، وبالتالي ننفعل لأتفه الأسباب لأنهم ليسوا على النحو اللائق الذي نريد أن نفخر به أمام الناس، وهنا أقول: لا تنظروا إلى أحد، لا تضعوا في أعينكم إلا أبناءكم، افعلوا ما هو في مصلحتهم لأنه في مصلحتهم وليس ليراه أحد، اعتبروا أنفسكم في صحراء لا يراكم فيها أحد وتصرفوا مع أبنائكم بهدوء، من دون أخذ نظرة أو رأي أحد في الاعتبار!

وأخيرا.. تأتي الضغوط التي تحدثت عنها في البداية وقلت إنها قد تكون سببا ولكنها ليست هي كل الأسباب، كما قلت، الضغوط هي جزء من حياتنا ونموّنا لا نستطيع التخلص منها، ولكن هناك “درجة حرجة” من الضغوط ترسل لنا جرس إنذار إذا وصلنا إليها، لننتبه ونراجع أولوياتنا ونأخذ بعض الراحة.

 

 

عن qalb kabeer

شاهد أيضاً

كيف تكون أباً ديكتاتوريا جميلا؟

كيف تكون أباً ديكتاتوريا جميلا؟ د. فيروز عمر لم يكن مُستغرباً بالنسبة لي أن أكتشف …