الله الذي .. يحبنا و يساعدنا و يحاسبنا (1)
د. فيروز عمر
عالم النفس الشهير ابراهام ماسلو – صاحب أهم نظرية حول الاحتياجات الانسانية، قد اعتبر أن “الاحتياج الروحي يتربع قمة التسلسل الهرمي للاحتياجات الانسانية” ، وأكد أن “حدوث الاضطرابات الروحية يؤدي إلى الشعور بفقدان المعنى في الحياة و الانهيار السهل أمام ضغوطها”، كما أنه أوضح أن ” تهديد الاحتياج الروحي الأعلى يهدد الاحتياجات الأدنى”.
أما هؤلاء الذين يتمتعون باشباع روحي فقد أسماهم “ماسلو”: “المتسامون” (Transcenders) – الذين يستطيعون أن يتساموا فوق احتياجاتهم الدنيا و رغباتهم وأنانيتهم، وبالتالي يعيشون حياة أكثر توازنا وأقل صراعا.
من خلال هذه السلسلة من المقالات نفتح ملف التربية الروحية، وبالتالي تناول علاقة أبنائنا بالله. ونحن هنا لن نتعرض لتفاصيل دينية أو تشريعية تتعلق بهذا الملف، ولكننا نتناول علاقة أطفالنا بالله من منظور نفسي يهتم بالاحتياجات والمسئوليات، وذلك لأن الخلل في التربية الروحية يؤدي إلى حرمانهم من تلبية احتياج نفسي رئيسي، وحرمانهم أيضا من تحمل مسئولياتهم تجاه حياتهم بشكل سوي ومتزن.
ولذلك فإننا ندعو الآباء و الأمهات مع اقتراب المواسم الدينية أن ينتبهوا لتلبية الاحتياج الروحي للطفل على نحو يبني لا يهدم، حيث يحتاج الطفل ثم المراهق إلى ثلاثة أركان روحية أساسية تمنح حياته معنى: 1) أن الاله يحبه ويرحمه، 2) أن الاله قادر على مساعدته، 3) أن الاله يحاسبه على مسئولياته.
وبالتالي، يجب على المربي أن يراعي هذه المرتكزات الثلاثة، ثم ليأت أي شيء بعد ذلك، حسب تفاصيل دينه أومذهبه.
- أن الله يحبه ويرحمه:
شعور الطفل – أو الانسان عموما – برحمة الاله وحبه يؤثر فيه في ثلاثة جوانب رئيسية:
أولا: يشجعه على أن يكون هو نفسه محبا ورحيما بالبشر:
كثير من الأطفال و المراهقين يشعرون بداخلهم:”كيف أكون أنا رحيما اذا كان الاله ذاته غير رحيم”!! سمعنا هذه العبارة كثيرا. عندما يتعرض أحدهم لأي شكل من أشكال الظلم أو الاعتداء في صغره فاذا به يكرر نفس الاعتداء في شبابه، ويقول: “أين كان الله عندما حدث لي كذا وكذا..”
ثانيا: يفتح له خط الرجعة لاصلاح أخطائه:
لأن تعديل السلوك أمر في غاية الصعوبة، و الطفل أو المراهق يركن لليأس بسهولة، ويفقد ثقته في الصفح عموما –من الأرض أو السماء. لذلك هو في حاجة دائما للشعور أن هناك خط رجعة، وهناك فرصة للاصلاح وتعديل السلوك. هؤلاء المراهقون الذين تمتلئ حياتهم بالكوارث السلوكية، يحتاجون للشعور أن القوة العظمى في هذا الكون تقف بجانبهم، و مستعدة للصفح. هذا يعطيهم الأمل في أنفسهم وفي امكانية اصلاح ما فسد مهما كان عظيما.
ثالثا: يمنحه السكينة عندما تقسو عليه الحياة:
لأن البشر في غالب الأحيان لا يرحمون بعضهم البعض، واذا لم يشعر الطفل أو المراهق بوجود إله يرحم ويحب، فإنه يفتقد الأمان كليا، ويرتبك في مواجهة هذه الغابة الموحشة. لذلك هو في حاجة للشعور –دائما- بأن هناك واحد على الأقل يحبه و يرحمه، ويشعر بمعاناته وآلامه، ويرأف به، ويقدر ضعفه، و يأخذ بيده.
لهذه الأسباب الثلاثة يحتاج الطفل ثم المراهق باشباع الاحتياج النفسي لحب الله ورحمته، وذلك من خلال أفكار يتم غرسها من خلال الحوار، و القصص، و والتعليق على المواقف اليومية ، منها:
- الاكثار من الحديث عن مواقف من السير يتمثل فيها رحمة الله.
- الاشارة إلى أن الدنيا هي مكان للاختبار، وبالتالي فإن ما نتعرض له من متاعب هو جزء من هذا “الاختبار”، وأن رحمة الله وحبه تتمثل في مساعدتنا أثناء الاختبار، ثم في الثواب الأخير بعد الاختبار، ولكنه يظل اختبارا ويظل صعبا.
- التأكيد على أن الاله لا يمل من الرحمة و الحب، وأننا مهما أخطأنا فإنه مستعد للصفح، ومهما اشتد علينا الاختبار فإنه مستعد لفتح أبواب خير من حيث لا ندري، ومهما تعثرنا فإنه يفتح أبواب الأمل.
وأخيرا.. لاشك أن الله الذي يحب و يرحم هو أيضا يعاقب، وإلا لما تحقق العدل، وهذا ما سنتحدث عنه في المقال التالي، ولكننا نحاول أن نعلق قلوب أبنائنا برحمته دائما، لأن مجرد “التعلق برحمته وحبه” يفتح بابا للخير يمنعهم من الطغيان أو المبالغة في التجاوز أو الظلم الذي يستوجب عقابه. وهذا لا يجعل أبناءنا ملائكة معصومة من الخطأ، ولكنه يجعلهم في محاولة دائمة للسعي نحو الأفضل أمام هذا الاله الذي يرحم و يصبر و لا يمل الحب.
في الجزء التالي نتحدث عن الركيزتين التاليتين وهما: الله قادر على مساعدته، وهو يحاسبه على مسئولياته.