هل يمكن أن يحب أبناؤنا القراءة؟
د فيروز عمر
في حوار بين أم وابنتها، اقترحت الأم على ابنتها البالغة من العمر 12 عاما، أن تقضي بعضا من وقتها في أثناء الأجازة في قراءة الكتب، أو ربما حضور بعض الورش الثقافية أو الدورات التدريبية المفيدة ..
فوجئت الأم بثورة عارمة من ابنتها، وجاء ضمن كلمات البنت أثناء تلك الثورة أن قالت لأمها: “الدراسة في وقت الدراسة فقط.. هل تريدين مني أن أدرس في الأجازة؟”
وهنا اكتشفت الأم الكارثة، التي لا تعاني منها فقط هذه الابنة، وإنما قد يعاني منها أغلب أبنائنا، وهي أنهم لا يدركون معنى “العلم”!! هم فقط يعرفون أن هناك شيء اسمه “دراسة” يرتبط بالمدرسة و الامتحانات و الفروض المنزلية، ولكن يبدو أنهم لا يدركون أن هناك معنى أوسع هو “العلم” الذي يجب نسعى إليه في كل وقت، وأن الدراسة المدرسية ما هي إلا صورة من صور العلم، قد تكون صورة بغيضة لقلوب كثير منهم، ولكنها ليست هي كل العلم. …
وبالتالي نحن في حاجة إلى أن يفهم أبناؤنا معنى العلم، وأن نغرس حبه في نفوسهم منذ وقت مبكر جدا ثم نستمر في ذلك مدى الحياة، ويا حبذا اذا بدأنا ذلك قبل دخولهم المدرسة، حتى يتعرفوا على العلم قبل أن يتعرفوا على المدرسة!!
وهنا نوضح الفقرة السابقة في أسئلة أكثر تفصيلية: ماذا علينا أن نفعل وكيف؟ ومتى؟
- أن يفهم أبناؤنا معنى العلم، وأن نغرس حبه في نفوسهم (ماذا؟ وكيف؟)
هناك ثلاثة أفكار أساسية عن العلم يجب أن تصل لأبنائنا، وهي:
- وسائل العلم متنوعة لتناسب الجميع
- التعلم ممتع
- العلم يجعل للانسان قيمة، ويجعل لحياته معنى، وينمي ثقته بنفسه
ولكن هذه الأفكار الثلاثة لا تصل لأبنائنا من خلال “إخبارنا” لهم بها، وإنما تصل من خلال ممارستها معهم:
- فهم في حاجة لتذوق وسائل العلم المتنوعة وممارستها عمليا، واليقين بأن تنوعها يجعلها مناسبة للجميع، فيمارسون “البحث” كوسيلة من وسائل التعلم، ولا أعني هنا البحث بمعناه المحدود، وإنما بمعناه الأوسع.. “ابحثوا في طريقكم عن أنواع مختلفة من أوراق الشجر وقوموا بتجميعها ومعرفة معلومات بسيطة عنها”، “ابحثوا على الشاطئ على أنواع مختلفة من الصخور ثم لنقرأ عنها معا”. “ابحثوا على الانترنت عن موضوع تحبون أن تتحدثوا عنه في البيت”. ويمارسون “القراءة الحرة” كوسيلة للتعلم، فيدخلون المكتبة، ويختارون بأنفسهم الكتاب الذي يتحمسون لقراءته أو المجال الذي يهتمون بالمعرفة فيه. ويمارسون التعلم من خلال “التعبير” أو “reflection” حول موقف مروا به، أو تجربة عاشوها مهما كانت بسيطة. يتذوقون التعلم من خلال الرحلة و التصوير وزيارات لأماكن أو أشخاص ذات علاقة بالبيئة أو العلوم أو الخبرات الانسانية. هذا التنوع في وسائل التعلم، يعطيهم براحا في اختيار ما يناسبهم، ويمنحهم معنى أعمق للعلم.
- ونساعدهم أن يدركوا أن التعلم ممتع، وذلك من خلال ممارسة هذه المتعة عمليا، متعة الفهم و الاستكشاف و التجوال بين أركان الحياة، ومتعة حرية الاختيار –ولو بدرجة ما- لما يريدون معرفته وتعلمه، ومتعة البحث والأسفار و الرحلات ومقابلة أصحاب الخبرات، وأيضا متعة المعرفة في حد ذاتها، والتنوع و الحياة.
- ونساعدهم أن يدركوا أن العلم يجعل للانسان قيمة، ويجعل لحياته معنى، وينمي ثقته بنفسه. نحاول اظهار التأثير الايجابي لعلمهم وسعة أفقهم، فهم في أحاديثهم الحياتية العادية سيستخدمون أمثلة مما تعلموه، فيقول أحدهم مثلا أن الموقف الفلاني يشبه سلوك النملة عندما تفعل كذا أو كذا، ويكون رد فعلنا عندئذ هو أخذ الكلام مأخذ الجد وعدم السخرية (ولو عن غير قصد)، بل التأكيد على قيمة هذه المعلومة، وأنه لولا تعلم هذا عن النمل لكان رد فعله سطحيا، وهكذا نحاول دائما التأكيد على قيمة كل مهارة أومعلومة يكتسبها. صحيح ليس سهلا أن نربط العلم دائما بالتطبيق فنحاول أن نساعده على تطبيق ما يتعلمه، هذا ليس سهلا لأن ليس كل العلم قابل للتطبيق الفوري المباشر، ولكننا نستطيع – على الأقل – الاشارة لنماذج ناجحة أو مؤثرة بالعلم، وأكرر مرة أخرى “العلم” وليس الشهادات، وأؤكد أيضا ليس بالضرورة أن يكونوا “علماء” أو “عباقرة”. ربما تفيدنا المقارنة هنا، فنجد من حولنا عشرات النماذج لشباب أو مراهقين يعيشون حياة تافهة ليس بها سوى الألعاب الالكترونية و التسوق و اللعب، بينما نجد على الجانب الآخر شبابا يشاركون في مسابقات أدبية أو علمية أو أنشطة اجتماعية، وهنا نحتاج إلى ترغيب الطفل في هذا النموذج و تنفيره من ذاك، وربط هذا وذاك “بالعلم” وتنمية الانسان لنفسه.
- أن نقوم بهذا منذ وقت مبكر جدا، ثم نستمر مدى الحياة (متى؟)
وكما ذكرت، يا حبذا اذا بدأنا الرحلة قبل دخولهم المدرسة، حتى يتعرفوا على العلم قبل أن يتعرفوا على المدرسة، فيتعرفوا على المعنى “الرحب” للعلم قبل أن يتعرفوا على المعنى “المحدود”، فينتقلون بذكاء بين الرحب و المحدود. ونمارس ذلك معهم بشكل مستمر – لأن التعلم عملية مستمرة – في الصيف و الشتاء، في الكبر و الصغر، فهو ليس مرتبطا بموسم أو بعمر. فنمارس معهم الوسائل المختلفة للتعلم –من قراءة وبحث وأسفار وغير ذلك في الدراسة و الأجازة، ونناقش معهم أن ما يتعلمونه في المدرسة هو “صورة واحدة من العلم”، وهي لها ضرورة من أجل الشهادة أو العمل، ولكنها ليست كل العلم.
وأختم بالسؤال الذي بدأت به: لماذا يكره أبناؤنا القراءة؟ هم يكرهونها لأنها تذكرهم بالمدرسة التي هي – كما يفهمون- موسم القراءة و الواجبات. ولكي يحبونها عليهم أن يحبوا العلم أولا، ثم يمارسون صوره المختلفة (القراءة وغيرها)، وأن يتم هذا مبكرا، مدى الحياة، مرتبطا بقيمة الانسان ومعنى الحياة.